Sunday, April 8, 2007

أثينا .. ملامح شرقية في ثوب غربي

أثينا .. ملامح شرقية في ثوب غربي، نشر في موقع عشرينات

إذا ذهبت إلى هناك ستجدها .. فتاة ساحرة .. تقف على شاطئ المتوسط .. شرقية الملامح، ترتدي ثياب غربية، لتجمع سحر الشرق و الغرب، وجهها غاية في الجمال و الرقة، إحساسها غاية في الرومانسية، نظراتها تشع شموخا و تحديا للزمن، عقلها أبدع الكثير من العلوم كالفلسفة و علوم السياسة .. لم أكن بحاجة لسؤالها عن اسمها .. فكل هذه الصفات تدل على أنها هي .. أثينا.
عندما تلقيت دعوة من اللجنة التحضيرية للمنتدى الاجتماعي الأوروبي الرابع للمشاركة في المنتدى الذي سيقام في العاصمة اليونانية، كنت في غاية السعادة فقد كنت على موعد مع من جمعت بين الجمال و العلم و الحضارة و النضال .. كنت على موعد مع أثينا، بالفعل أنهيت إجراءات سفري و سافرت على الخطوط الجوية الأوليمبية، و عندما وصلت للمطار مع الوفد المصري المشارك في المنتدى، كان في انتظارنا عدد من النشطاء اليونانيين من اللجنة التحضيرية للمنتدى حضروا لاستقبالنا و تسكيننا.
ذهبنا مع النشطاء اليونانيين، و ذهبت مع مضيفي إلى منزله الواقع في وسط أثينا .. استقلينا أتوبيس بكل سهولة من أمام المطار بدون أية تعقيدات، كان الطريق إلى وسط أثينا ممتعا، على الجانبين عدد من التلال لا ترى منها سوى اللون الأخضر، و عندما وصلنا وسط المدينة كانت الحياة العصرية، كانت الساعة في حدود السابعة و النصف صباحا موعد خروج المواطنين لأعمالهم، الجميع يسير بخطوات مسرعه .. يحمل أغراضه في يد و في الأخرى يحمل كوبا بلاستيكيا ممتلئ بالمشروب الوطني " الفرابيه " و هو عبارة عن بن "أقرب إلى النسكافيه" مضروب في ماء مثلج.
قضيت يومي الأول في أثينا دون الشعور بأنني في أوروبا، لا أعرف لماذا أحس بالحميمية تجاه هذه الوجوه التي تقابلني و التي يشبه معظمها الوجوه العربية بشكل كبير، و برغم أن النوم كان يطاردني طوال رحلة الطائرة، إلا أن النوم نفسه وقع أسيرا لجمال المدينة، رفضت النوم و طلبت من مرافقي أن نقوم بجولة في المدينة، ذهبنا إلى أثينا القديمة، حيث الشوارع المبنية على الطراز التركي الشوارع الضيقة و المائلة صعودا و هبوطا، و لم أنتبه إلى الوقت إلا حينما نبهني رفيقي أنه علينا أن نذهب للحفل الذي ستقيمه اللجنة التحضيرية للمنتدى في ميدان ساينتاغما في السابعة و النصف مساء، و لم يتبق من الوقت إلا القليل، و بالفعل ذهبنا إلى الاحتفال .. كانت اللافتات و حتى كلمات الأغاني (التي لم أفهم منها شيئا إلا بعد ترجمتها بالإنجليزية) و الحشد الكبير و الرايات الحمراء المرفوعة في كل مكان صورة مكبرة للمظاهرات التي أشارك فيها في مصر و لكن كان هناك عنصرا ناقصا و هو الأمن المركزي و كان ذلك، سببا كافيا لأن أسأل رفيقي مستغربا "أين هي قوات الشرطة ؟!!!" و كان رده سريعا و بتلقائية شديدة "و لماذا تسأل عن قوات الشرطة"؟!!!!!
في اليوم التالي .. كان اليوم الأول لفعاليات المنتدى الاجتماعي الأوروبي الرابع و هو منتدى للحركات الاجتماعية و منظمات المجتمع المدني الأوروبية و بعض النشطاء من بقية دول العالم، ذهبنا للتسجيل .. بعدها استلمنا برنامج المنتدى و كان علينا أن نختار من بين العشرات و العشرات من المؤتمرات و الحلقات النقاشية في مختلف القضايا، ركزنا على الحلقات النقاشية التي تخص قضايانا العربية كالمقاومة في فلسطين و العراق و الديمقراطية في وطننا العربي، و كان للنشطاء العرب تواجد مهم في خلال هذه الحلقات النقاشية حيث نجحنا في تهميش الوجود الـ"إسرائيلي" في المنتدى، و قاطع النشطاء العرب و تضامن معهم رفاقهم من مختلف دول العالم إحدى الندوات التي كان من المقرر أن يحاضر فيها أحد الـ "إسرائيليين"، و بالفعل فشلت الندوة و لم يحضرها أحد لدرجة أن هذا الـ"إسرائيلي" فقد أعصابه و أخذ يتهم العرب و مؤيديهم بأنهم عنصريين، كما نجح النشطاء العرب في أن يكون البيان الصادر من المنتدى الاجتماعي الأوروبي، أول بيان يصدر من بلد أوروبي يطالب بدولة عربية فلسطينية على كامل التراب الفلسطيني "حدود 1948" لكل مواطنيها، و في اليوم الأخير شاركنا مع المناضلين الذين أتوا من كل مكان في العالم في المسيرة الدولية التي ضمت 300.000 متظاهر و توجهت قبل انتهائها إلى السفارة المصرية في أثينا لتطالب بالإفراج عن المعتقلين المصريين الذين اعتقلوا بسبب تضامنهم مع القضاة.
بعد انتهاء فعاليات المنتدى .. كان اللقاء ثانية مع .. أثينا، تجولت في شوارعها، اختلفت فيها أسماء الشوارع و لكنها اتفقت في شيئين رئيسيين و هما المكتبات و الكافيتريات، فالمكتبات تملأ العاصمة اليونانية بشكل غير عادي، و تمتلئ بأحدث الكتب العالمية المترجمة، بالإضافة إلى كتب في شتى المجالات، من بينها الكثير من الكتب عن الحضارة الفرعونية و عن مصر، و كتب مترجمة عن العربية حيث وجدت 13 كتابا مترجما لليونانية لنجيب محفوظ، و لكن أكثر الكتب مبيعا في تلك الفترة كان رواية "شفرة دافنشي"، أما الكافيتريات فكانت سمة أخرى لشوارع أثينا التي تجد الكافيتريات فيها على طول الطريق، بشكل حضاري جميل متناسق حتى في ألوانه، و لكن الشيء الملفت للنظر حقا هو اعتزاز اليونانيين الكبير بالعلم اليوناني، فأينما تولي وجهك ستجده أمامك بخطوطه الزرقاء و البيضاء التي تعكس ألوان الطبيعة في اليونان، على المحلات .. في الشرفات .. حتى على السيارات ستجد العلم اليوناني.
لم تستعين أثينا بأي شيء لتزيد من جمالها، فقط حافظت على جمالها الطبيعي و احترمته، فحافظت على كل بقعة خضراء فيها، و لم تحل محلها بجداريات أو رخام، حتى شوارعها اصطفت أشجار اللارنج و اليوسفي على جانبيها فرسمت لوحة خضراء جميلة تزينها بقع برتقالية، و لما كانت الطبيعة هي الأساس في جمال أثينا، فكان من الطبيعي وجود الحمام في كل مكان حولك، في منظر يبعث البهجة و السرور في نفسك و خاصة إذا حملت بعض الحبوب في يدك لتنثرها حولك على الأرض ليلتف حولك عدد مهول من الحمام ليأكل الحبوب، و يؤمن اليونانيين أن الحمام هو رمز للسلام لا يجوز إيذائه.
و على تل صخري مرتفع منبسط القمة، سترى بكل سهولة عظمة الحضارة اليونانية القديمة، حيث يقف الأكروبوليس شامخا في مواجهة الزمن، و هو من أعظم الآثار الإغريقية، و فيه معبد البارثينون المشيد من المرمر و الذي بناه اليونانيون القدماء و وهبوه للآلهة أثينا، بالإضافة إلى معبد أرخيوم، و مسرح ديونيسوس الذي كان يعرض فيها أدباء الإغريق رواياتهم، و حول الأكروبوليس ستجد عددا من المقاهي المطلة على المعبد الإغريقي القديم و التي تستمتع فيها كمثيلاتها من المقاهي و الكافيتريات في كافة أنحاء أثينا، بمن يأتي إليك باسم الوجه و يحمل الكمنجة أو الأكرديون و يقف بجوارك عازفا لأروع الموسيقى اليونانية.
ستجد هناك أيضا بعضا ممن قست عليهم أوطانهم، فهاجروا للخارج بحثا عن لقمة العيش، أو بحثا عن حريتهم .. ميدان أومونيا و منطقة كاليثيا أكبر منطقتين لتجمع العرب بشكل عام و المصريين بشكل خاص، فتجدهم يجتمعون على المقاهي و المطاعم العربية هناك، كقهوة الإسكندرية و ليالي الحلمية و غيرهم، كما يستطيعون التسوق لشراء المنتجات العربية و حتى الجرائد العربية اليومية من الكثير من المحلات و على رأسها سوبر ماركت كليوباترا، و في قهوة الإسكندرية بكاليثيا تستطيع أن تستمع "للست" أم كلثوم إلى جانب دردشة بعض المصريين و عرب من أقطار أخرى حول هموم حياتهم، و عملهم و الصعوبات التي تواجههم في أعمالهم، تعرفت على العديد منهم و كان من بين هؤلاء الذين تعرفت عليهم مواطن سوري يقيم في اليونان منذ 24 عاما، و كان حديثه لي ذو شجون و خاصة عندما قال لي أنه يحلم بالعودة إلى سوريا و لكنه تأقلم على الحياة في اليونان لأنه يعيش بها منذ 18 عاما ( يعيش في أثينا منذ عام 1982 )، و عندما أخبرته أنه يقيم في أثينا منذ 24 عاما و ليس 18 عاما، فما كان منه إلا أن أشعل سيجارة و امتلأت عيناه بالدموع و نظر إلى اللانهاية و قال أنه حتى لم يعد قادرا على حساب مدة إقامته في أثينا، بعدها غاب في صمت قاتل.
و برغم ذلك، فإن أثينا ليست هي تلك المدينة الهادئة التي يعيش أهلها راضيين على الواقع، و لكنها مدينة تعج بالنشاط السياسي و النقابي حيث تزين جدران شوارعها الملصقات الداعية للإضراب و التظاهر من أجل حقوق عمالية و اجتماعية، و لم يكن يمر يوم إلا و تجد إضراب لعمال هيئة معينة، كعمال البريد و عمال البنوك و غيرهم، بالإضافة إلى الإضرابات و المظاهرات الطلابية التي شاركت في إحداها، و المحتجة على خصخصة الجامعات اليونانية، بل أنني شهدت أول إضراب عام في حياتي كلها في أثينا، حيث شلت الحياة تماما في المدينة، توقفت المواصلات و الشركات و البنوك و حتى المكتبات و المحلات، حتى الطائرات و السفن، توقفت الحياة في أثينا لمدة يوم كامل للمطالبة بأن يكون الحد الأدنى للمرتبات 1300 يورو !!!، و في أحد الليالي بينما كنت أسهر مع مجموعة من الأصدقاء اليونانيين، و في حوالي الساعة الثانية و النصف ليلا، سمعت ضوضاء شديدة و هتافات لا أفهم منها شيء لأنها باليونانية، فقلت لأحد الأصدقاء هذه النغمة في الهتاف تشبه إلى حد كبير نغمة الهتاف التي كنت أسمعها في المظاهرات، فابتسم صديقي و قال لي انتظر قليلا و سوف ترى، و فجأة وجدت عدد كبير جدا من الشباب في مظاهرة بالدراجات، و يوزعون بياناتهم على المواطنين الذين خرجوا لرؤيتهم و الذين يجلسون على المقاهي، و أخبرني صديقي أنهم يطالبون بأن تخصص لهم الحكومة عربة في المترو و الترام و يوفروا لهم أتوبيس خاص ليستطيعون أن يتنقلوا و معهم دراجاتهم، كما يطالبون أن توفر لهم الحكومة طريق خاص للدراجات، و يؤكدون في بيانهم أن الرأسمالية لا تخدم سوى الأغنياء أما الفقراء الذين لا يستطيعون شراء سيارة فتسعى الرأسمالية إلى تهميشهم!!!.
كانت الصدمة عندما أردت أن أرى أثينا ليلا، أصر أصدقائي أن نذهب إلى ميدان أومونيا، في المنطقة التي يعيش فيها المهاجرين و الفقراء اليونانيين، وقتها أحسست أنني أعيش في مدينة من الأشباح، بيوت الدعارة التي يعمل بها فتيات مهاجرات من دول أخرى من أفريقيا و آسيا، شباب يرتمون في كل مكان يعانون من الإدمان، شباب يسير و هو يترنح من الإفراط في شرب الخمور، مواطنين لا يجدون مأوى و يضطرون للمبيت في الشارع، و عندما رأى صديقي وجهي و قد ظهرت عليه آثار الصدمة، قال لي "هذا هو الوجه الحقيقي للرأسمالية".
أثينا .. روضة من الجنة تتزين بها الأرض، حافظت على حضارتها و انفتحت على حضارات العالم أجمع، و حتما سيأتي اليوم الذي ستنجح فيه في إزالة هذه البقعة السوداء التي علقت في فستانها الذي لا يعرف سوى اللون الأزرق و الأبيض.
أحمد بلال

No comments: