Saturday, April 14, 2007

"ايو" .. مدينة عربية في قلب الصين

"ايو" .. مدينة عربية في قلب الصين
ء* نشر بموقع عشرينات

أحمد بلال

صوت أم كلثوم يأتي من مكان ليس ببعيد و هي تشدو .. "أروح لمين .. و أقول لمين، ينصفني منك" .. تتبعت الصوت كالطفل الصغير الذي لا يميز شئ في الدنيا إلا صوت أمه .. وصلت إلى مصدر الصوت حيث مقهى يوسف هنا في "ايو" أكبر المراكز التجارية في الصين، كان لصوت أم كلثوم إحساس آخر .. و طعم آخر .. و وقع آخر .. فأن تسمع أم كلثوم خارج الوطن، غير أن تسمعها داخله، ففي هذه اللحظات يجسد صوت أم كلثوم أمام عينيك و في لحظات الوطن و الحبيبة و الأصدقاء.
ساعتين بالطائرة .. هي مدة الرحلة التي قطعتها من العاصمة الصينية بكين إلى مدينة "ايو"، بمقاطعة تشه جيانغ، وصلتها مساء فرأيتها لا تختلف عن بقية المدن الصينية، حيث لم أستطيع تحديد ملامحها بشكل دقيق، و لكن بعد وصولي للفندق، كانت أولى المفاجآت .. لافتة في الناحية المقابلة كتب عليها باللغة العربية "مطعم الفردوس العربي"، لم يكن الجوع هو السبب الوحيد الذي دعاني للذهاب إلى الطعم فورا دون أي تفكير، و لكن السبب الأهم كان الوطن الذي تجسد في حروف الأبجدية العربية، عندما ذهبت لم أحس بوجودي غريبا، فالجميع هنا عرب، حتى القنوات التليفزيونية، اللغة العربية التي يتحدث بها الجميع تطربك بعد غيابك عنها فترة ليست بالطويلة، بالإضافة إلى كل ذلك .. كان المطبخ العربي الذي طالما افتقدته هنا .. و لم أجد بديلا سوى الاستسلام للمطبخ الصيني.
بعد ليلتي الأولى في ايو لم أجد أي عناء في تحديد ملامح المدينة، ففي الصباح بدأ كل شيء يظهر على حقيقته، في ايو من الطبيعي جدا أن تجد لافتات المحلات و المصانع و الفنادق و غيرهم مكتوبة باللغة العربية جنبا إلى جنب مع اللغة الصينية، و لن يكون غريبا أبدا أن تجد العديد من أبناء المدينة أو الذين أتوا إليها من مدن أخرى بغرض العمل يعرفون بعض الكلمات العربية أو على الأقل الأرقام و "كيف حالك ؟"، فالعربية لغة الـ "ألابو" أي "العرب" الذين أتوا إلى المدينة من كافة أرجاء وطننا العربي بغرض التجارة.
في "ايو" .. لن تشعر أبدا أنك أجنبي .. فأينما تولي وجهك ستجد عربا، أتوا إلى هنا من كل قطر عربي يبحثون عن الرزق، يجوبون الأسواق نهارا حتى الساعة الخامسة وقت انتهاء العمل، بعدها يلتقون في المطاعم و المقاهي العربية التي تمتلئ بها المدينة.
"سبأ"، "بغداد"، "يوسف"، "الكابتن"، "الفردوس العربي"، "العربي"، "أربيل"، "العراقي" و "الأهرام" كلها أسماء مطاعم و مقاهي عربية هنا في "ايو"، و يوجد غيرها الكثيرين و لكن أكبر و أقدم هذه المطاعم و المقاهي هو "المائدة"، الذي يكتسب شهرة واسعة هنا، لدرجة أنك إذا كنت تسكن في مكان قريب من "المائدة"، و لم يفهم منك سائق التاكسي المكان المطلوب، ما عليك أن تقول له "مائدة"، حتى ينطلق بك فورا إلى هناك.
أكبر الأسواق في "ايو" هو سوق الفوتيان .. و هو سوق تجاري كبير يحتوي على أكثر من 40 ألف متجر، و هو مكون من أربعة طوابق، لم يبنى الفوتيان كمجرد سوق يحتوي على محلات تجارية، و إنما بني كأنه قطعة فنية ساحرة من حيث الشكل و الديكور و التنظيم، و الفوتيان مقسم إلى عدة أقسام مرتبة بالحروف الأبجدية الإنجليزية، كل قسم منها يحتوي على نوع معين من أنواع البضائع، فمثلا تجد بداخله سوق الملابس، سوق الإليكترونيات، سوق الألعاب .. إلخ، المساحة المقام عليها هذا السوق ليست بالبسيطة، لدرجة أنك إذا أردت أن تنتقل بداخله من قسم إلى آخر فعليك أن تستقل تاكسي، أو "التك تك"، أو الأتوبيس الذي توفره الحكومة الصينية لخدمة زوار الفوتيان، و ذلك برغم أن جميع أقسام الفوتيان مرتبطة بعضها البعض.
كل منطقة هنا في "ايو" بنيت على طراز واحد، الشكل واحد .. اللون واحد .. عدد الطوابق واحد، شوارعها واسعة جدا، تحتوي على طريقين للسيارات، و طريقين للموتوسيكلات و "التوك توك" و الدراجات، حتى مواقف السيارات فلها أماكنها المحددة في الشوارع و ستجد الأرض فيها مقسمة إلى مستطيلات رسمت باللون الأبيض كل مستطيل منهم مكانا لسيارة، و إلى جانب السيارات و الأسفلت ستجد الخضرة و الأشجار و البحيرات، التي يرتادها سكان المدينة بعد انتهاء عملهم يوميا.
في "ايو" الحدائق العامة التي تحس بمجرد دخولك إليها أنك في كوكب آخر لا شيء فيه سوى هذه الطبيعة الساحرة، يتوسطها دائما بحيرة كبيرة يسبح فيها سرب من البط البري، و إلى جانب هذه الحدائق العامة ستجد هذا النهر الذي يشق المدينة إلى نصفين و يحيط به من الطرفين "كورنيش" كبير يصل عرضه في بعض المناطق إلى حوالي 500 متر، و قد تزيد المساحة في مناطق أخرى، حتى "الكورنيش" في الصين له شكل آخر، فلما كان غرض أي شخص من الذهاب إلى النهر هو التمتع بجمال الطبيعة، فلم تفسد الحكومة الصينية هذا الجمال الطبيعي بألواح من الجرانيت و البلاط، و إنما أحاطت النهر بحديقة كبيرة، اللون الأخضر فيها هو سيد الموقف، يزينه ألوان الزهور الزاهية التي زرعت بعناية شديدة و كأنها في تنسيقها للألوان لوحة فنية بارعة، و يتوسط هذه المساحات الخضراء مجرى مائي صغير تمر من فوقه بعض القناطر الخشبية الصغيرة لتزيد الجمال جمالا.
الجبال هنا في "ايو" جمالها يسلب العقول، لن يظهر لك فيها سوى اللون الأخضر، تحتوي على عدد من الممرات الملتوية يمينا و يسارا و بين كل مسافة و الأخرى ستجد بعض الكراسي التي تستطيع الجلوس عليها لتأخذ قسطا من الراحة، و قد صممت بشكل فني يتلائم مع الطبيعة المحيطة بها، و تمتد الطرق فيها من سفح الجبل حتى قمته التي تستطيع من عليها أن ترى المدينة كاملة.
و لما كانت الطبيعة هنا بهذا السحر، فمن الطبيعي أن تجد لها عشاقها، هؤلاء الذين يذهبون يوميا للتمتع بها بعد عملهم، ستجد عدد كبير منهم مقسمين إلى مجموعات من الأصدقاء يحضرون كل ليلة هنا في الحديقة التي تحيط بالنهر و معهم "دي جي" يرقصون أو يمارسون رياضة خفيفة على أنغام الموسيقى.
هنا .. الناس لا تؤمن فقط بحرية المعتقد .. و إنما تحترم هذا المعتقد .. من أجمل المناظر التي رأيتها في حياتي، عندما كنت أسير في أحد شوارع سوق الفوتيان، و وجدت أمامي شخص مسلم عرفت فيما بعد أنه فلسطيني يصلي في وسط الشارع، لم أرى في عين أي شخص منهم نظرة امتعاض أو استغراب، الكل أفسح له الطريق حتى انتهى من صلاته في كل هدوء، و في إحدى المرات ذهبت إلى السوبر ماركت لأشتري "بلوبيف"، و عندما اخترت إحدى العلب لأشتريها سألني العامل هناك "مسلم ؟"، فقلت له نعم، فقال لي بكل هدوء "هذا ليس لك لأنه يحتوي على لحم خنزير"، و أعطاني نوعا آخر، و على الصعيد الرسمي فقد قررت الحكومة الصينية هذه الأيام ترميم أقدم نسخة محفوظة من القرآن في الصين و المخطوطة بخط اليد، و التي وصلت الصين منذ أكثر من 700 سنة، و ذلك بمبلغ 55 ألف دولار أمريكي.
"ايو" .. هي النموذج المصغر للمعجزة الصينية، فالمدينة التي يطلق عليها الآن "المدينة التجارية الدولية"، كانت منذ ست سنوات فقط قرية صغيرة، لا يسمع عنها أحد حتى في الصين نفسها، و الآن أصبحت من أكبر المراكز التجارية في العالم، و يجري العمل فيها حاليا لبناء مطار دولي من مطارات العالم إلى "ايو" مباشرة، و هكذا تتجسد إرادة الإنسان، إنسان آمن بقوته و لم يعرف للمستحيل طريقا، فنفذ في سنوات لم تتعدى أصابع اليد ما تعجز أنظمتنا أن تنفذ منه 1% طوال فترات حكمها التي تمتد أو تزيد عن ربع قرن من الزمان، و إذا كان هذا التنين الأحمر الذي يعمل في صمت قد وصل لهذة القوة بعد حوالي 60 عاما من ثورته، فإنه و بكل تأكيد سيكون هو التنين الأحمر الذي سيسود العالم في الفترة المقبلة.

No comments: